آدم آدم

0

2,311

الحسد ( 3 ) : الشيخ زيد البحري

خطبة الحسد ( 3 )

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري


الخطبة الأولى

أما بعد فيا عباد الله سبق وأن تحدثنا عن الحسد وعن طبيعة تلك الفئة والطائفة التي نشأت عليه وهم اليهود وذكرنا أسبابه وذكرنا أضراره عباد الله الحسد لا يجثوا إلى على قلوب رديئة ولا ينبت إلا في قلوب منتنة وما جثا الحسد على القلوب بِعُجِرِه وبُجَرِه وبثقله إلا حينما اشتغل أحدنا بعيوب الآخرين ونسي عيوبه ما جثا الحسد إلا بسبب ذلك وتالله لو اشتغل أحدنا بإصلاح عيوبه وتصويبها لأمضى واستغرق حياته كلها في علاجها ثم إن من رداءة الحال ورداءة الحظ وسوء الحال أن يشتغل بعضنا ببعض في ذم وفي ذكر عيوب إخوانه المسلمين بينما الأعداء من الداخل والخارج يخططون لهذه الأمة وهذا والله من البلاء المبين يذكر ابن كثير رحمه الله في البداية أن رجلا جلس عند إياس بن معاوية المزني وهو تابعي من قضاة البصرة يضرب به المثل في الذكاء والفطنة فتحدث هذا الرجل ولمز بعض إخوانه المسلمين فنظر إياس في وجهه ثم قال : أغزوت الروم ؟

قال : لا

قال : أغزوت الهند ؟

قال : لا

قال : أغزوت الترك ؟

قال : لا

قال سبحان الله سلمت منك الروم والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ،

ولذا لما مر إبراهيم بن أدهم ذات يوم بالسوق فاجتمع حوله الناس فقالوا : ما بال قلوبنا قد قست ؟

فقال رحمه الله : لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء ذكر منها قوله / انتبهتم من نومكم فاشتغلتم بعيوب غيركم عن عيوبكم ،

ولقد جاء في حديث في صحيح ابن حبان قوله عليه الصلاة والسلام ( يبصر أحدكم القذى ) وهو الشيء اليسير ( يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه ) يقول الشاعر :

عداتي لهم فضل علي ومنة * فلا أذهب الله عني الأعادي

همُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها * وهم نافسوني فاكتسبت المعالي

وقال آخر :

إني حُسِدْتُ فزاد الله في حسدي * لا عاش من عاش يوما غير محسود


لا يُحسد المرء إلا من فضائله * بالعلم والظرف أو بالبأس والجـود

وهنا عباد الله في هذا المقام أوصي بوصيتين إحداهما أقصر من الأخرى ، الأولى منهما للمحسود والثانية للحاسد ،

أما المحسود / فإذا كان يعيش في بيئة يعرف من خلالها أنهم لا يرغبون أن يصل إليه الخير فعليه أن يكتم نعم الله جل وعلا عليه وعليه أن يأخذ الحذر والحيطة في إخبارهم عن أمر خير سيحصل له في المستقبل ودلالة هذا ما جاء عند الطبراني بإسناد صححه الألباني رحمه الله من مجموع طرقه فقد صححه رحمة الله عليه في السلسلة الصحيحة وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) لأن النفس عباد الله جبلت على حب العلو والترفع فهي لا ترغب أن يعلوا أجناسها وأقرانها عليها فإذا علا قرينه عليه شق عليه ذلك وآلمه ، وهذا أمر معروف في الطباع وهذه وصية مختصرة

أما الوصية الواسعة الكاملة الشافية فهي للحاسد فعلى الحاسد أن يتعالج من هذا المرض من صيدلية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام شخص الداء ووصف الدواء ، فمن هذا العلاج أن يقف الحاسد على أضرار الحسد وتالله لو أن العاقل أدرك أضرار هذا الحسد لنأى بنفسه عن الوقوع في براثنه ، ثم أنت أيه الحاسد المحسود لا يتضرر المحسود بحسدك ولا تزول نعمة الله عنه لأن ما قدر الله عز وجل له سيبقى إلى أجله فتظل في هم وكرب وعذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد ولو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة ومقتضى العقل أن تحذر منه فكيف وأنت تدرك ذلك.

ومن العلاج عباد الله أن تعمل أيها الحاسد نقيض ما يأمرك به الحسد فإن حثك على القدح في عرض أخيك وفي لمزه فكلف نفسك المدح والثناء عليه وإن حملك على الكبر فالزم له التواضع وإن أزّك على كف الإحسان والفضل فالزم نفسك زيادة الإنعام عليه فقد كان مجموعة من السلف إذا بلغهم أن فلانا من الناس قد اغتابهم قدموا له هدية ، وهذا من أنجح الأدوية لعلاج الحسد فهو مُرٌ في أول وهلته لكنه حلو المذاق في آخر أمره وفي عاقبته { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وثبت في المسند قوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل الصدقة ، الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) أي المبغض أن تتصدق وأن تهدي إلى قريبك الذي تلمس منه بغضك فهذه أفضل الصدقة ،

ومن علاج الحسد عباد الله / أن تحصر نفسك في نطاقك ولا تنظر إلى من هو أعلى منك في أمور الدنيا وقد سبق أن منشأ الحسد إنما سببه مزاحمة الناس على الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام ولتضع نصب عينيك هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام ( إذا نظر أحدكم إلى من فُضِل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه ) وجاء عند مسلم ( انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من فوقكم فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم ) فإذا كنت مثلا أعرج فانظر إلى المقعد المشلول ، وإن كنت أعور فانظر إلى الأعمى وإن كنت ألتغ فانظر إلى الأخرس وإن كنت متوسط الحال في المال فانظر إلى من هو دونك ، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

ومن علاج الحسد عباد الله / أن تصاحب من هو في مستواك فلا تصحب الأثرياء والأغنياء ، يقول بعض الحكماء ) صحبت الأغنياء فلم أر أحدا أكثر مني هما لأني أرى ثيابا أحسن من ثيابي ودابة أحسن من دابتي ثم صحبت الفقراء فاسترحت )

ومن يطلب الأعلى من العيش لم يزل حزينا على الدنيا رهين غبونها

إذا شئت أن تحيى سعيدا فلا تكن على حالة إلا رضيت بدونــها

فيا عبد الله / من رضي بما هو عليه استراح من تعب الهموم ومن الأماني الكاذبة والأمنيات المهلكة

ومن علاج الحسد عباد الله / أن تعلم بأن الله قد أسدى إليك نعمة عظيمة كبرى هي نعمة الصحة والعافية فهي أفضل النعم بعد نعمة الإسلام وانظر إلى بعض الأثرياء كم من أثرياء بين قصور فاخرة كأنهم في أقفاص ،عندهم سيارات فارهة، ملابس متعددة ومتنوعة قد أصيبوا بأمراض خطيرة مزمنة متتابعة يود أحدهم لو أن هذه الدنيا كلها ذهبت من يديه ثم عادت إليه صحته ويدل على ذلك ويبرهن عليه قوله عليه الصلاة والسلام كما في سنن ابن ماجة ( سلوا الله المعافاة والعافية فإنه لم يعط أحد بعد اليقين أفضل من العافية )

وإن ترض بالمقسوم عشت منعما *** وإن لم تكن ترض عشت في حزن

ومن علاج الحسد / أن تدعو الله جل وعلا أن يخلصك من هذه الخصال الذميمة

{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا} وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام كما في سنن ابن ماجة ( اللهم اسلل سخيمة قلبي ) والسخيمة هي الحقد

ومن علاج الحسد عبد الله / أن تعلم بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار إنما هي دار ممر وما هي إلا كالطريق إلى تلك الدار التي لا موت فيها وظعن

ومن علاج الحسد عبد الله / أن تتذكر ذلك الثواب الذي يفوتك بحسدك فقد قال عليه الصلاة والسلام ذات يوم لأصحابه كما في المسند ( يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فسئل هذا الرجل عن عمله ؟

فقال: إني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين حقدا ولا حسدا على خير أعطاه الله إياه )

هذه جملة من العلاجات والأدوية من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن أختم عباد الله هذه الخطبة أنقل أسماعكم إلى ما سطره الإمام شيخ الإسلام ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه الروح إذ ذكر فوارق بين خصال حميدة وخصال ذميمة من بين هذه الخصال مبينا الفرق بين الحسد والمنافسة على الخير ، فقال رحمه الله : الحسد خلق نفس ذميمة وطبيعة ساقطة فلعجزها عن فعل الخير ولمهانتها تحسد من يكسب الخير كما قال تعالى{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } أما المنافسة في الخير فهي تختلف عن ذلك تمام الاختلاف والتباين وجرى حديثه فقال : فلقد كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يتنافسون فيما بينهم في أمور الخير وهذا يدل عليه قوله تعالى { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينافس أبا بكر الصديق فقد جاء في سنن الترمذي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بالصدقة ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، قال : فجئت بنصف مالي فوضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : ماذا أبقيت لأهلك ؟

قال : أبقيت لهم مثله ،

ثم جاء أبو بكر يسابق الريح أتى بماله كله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟

قال : أبقيت لهم الله ورسوله ،

قال عمر : لا أسبقك إلى شيء أبدا )

والمتنافسان كما قال ابن القيم كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في الوصول إلى محابه وإلى مرضاته فسيده يعجبه ذلك ويحثهم عليه ،

فمن جعل نصب عينيه رجلا من أهل الخير ينافسه في الخير استفاد منه وانتفع وهذا لا نذمه وإنما يصدق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) انتهى كلامه رحمه الله .

ويشبه هذا الحديث ما ثبت في سنن الترمذي وابن ماجة من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاث أقسم عليهم وأحدثكم حديثا فاحفظوه ما نقص مال عبد من صدقة ، وما ظلم عبد بمظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، ثم قال عليه الصلاة والسلام إني محدثكم حديثا فاحفظوه إنما الدنيا لأربعة نفر رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم أن لله عليه فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو حسن النية يقول لو أن لي مالا لعملت به كعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء

وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم أن لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت به كعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء )

أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي كان توابا رحيما .

الخطبة الثانية

أما بعد فيا عباد الله / مما سبق ذكره في الخطبتين يتبين لنا خلاصة القول في الحكم على الحسد وأن الحسد خمسة أنواع :-

أولا : أن يتمنى الحاسد زوال النعمة عن المحسود بل ويعمل بالوسائل المحرمة لإزالتها ، فهذا قد بلغ من الوقاحة والخبث مبلغه

ثانيا : أن يتمنى زوال النعمة عن المحسود ولو لم تصل إليه ، وهذا أيضا في غاية الخساسة والنذالة ولكنه دون الأول .

قال الشاعر :

سلم لربك يا حسود ولا تكن * فيما يريد ال الله بالمتعرض

فالزرق مقسوم وما من موسر * أو معسر إلا بأمر قد قضي

فإذا أفاض الله نعمته على عبد * فأول ما تشاء وفوض

واعلم بأن الله عدل حكمه * سيان غضب الحسود أو رضي.

ثالثا : أن يجد الحاسد من نفسه تمني زوال النعمة عن المحسود لكنه في صراع مع نفسه وفي مجاهدة مع نفسه لتخليصها من هذا المرض فهذا قد دفع عن نفسه العقوبة الأخروية ولكن عليه أن يسعى لمعالجة نفسه من هذا الوباء الخطير حتى يبرأ منه

رابعا : أن يتمنى زوال النعمة عن المحسود لسبب شرعي ، وذلك كأن يكون عند الحاسد نعمة يستعين بها على ظلم الناس ويستعين بها على معصية الله ، فهذا حسد ممدوح لاسيما إذا كان يترتب عليه عمل يدفع هذا الظلم وهذه المعصية

خامسا : أن يحب ويتمنى لنفسه مثل الغير ولكنه لا يرغب أن تزول النعمة عن المحسود وهذا إن كان في الأمور الدنيوية فلا بأس به ، أما إذا كان في الأمور الدينية كالعلم الشرعي فإنه حسد محمود وهذا ما يسمى بحسد الغبطة ، ويدل له ما جاء في الصحيحين ما ذكر آنفا ( لا حسد إلا في اثنتين ) ويدل له ما ثبت عند الترمذي من قول عائشة رضي الله عنها ( ما غرت من أحد ما غرت من خديجة وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما ماتت )

ولكن ما سبب هذا الحسد وهذه الغيرة منها ؟

قالت رضي الله عنها وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بشرها ببيت في الجنة من قصب ) أي من لؤلؤة مجوفة ( بشرها ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا وصب )

التعليقات (0)